المحلانيّة والأنموذج الإنساني العربي: منهجية إبستمولوجيّة في ارتباط اللسان، والهوية، والمعرفة في الحقلين اللغويّ والأدبيّ

الملخص

على مدى أكثر من قرن، أدرك اللغويون والمفكّرون العرب غياب منهجٍ علميٍّ شاملٍ يدرس اللغة العربية، بوصفها نظاماً حيّاً متغيّراً، لا أثراً مقدّساً جامداً. فقد دعا طه حسين (1938) وتمّام حسن (1980) إلى ضرورة اعتماد منهجٍ علميٍّ موضوعيٍّ في دراسة اللغة، يحرّر البحث اللغوي من الارتباط العاطفي والانفعال الإيديولوجي. وهي الدعوة نفسها التي وجّهها أعضاء حلقة براغ اللغوية – ومنهم رومان ياكبسون وفيلِم ماثِسيوس – نحو تأسيس (بارادايم) أو نموذجٍ وظيفيٍّ بينيّ التخصّص، يربط بين اللغة والأدب والثقافة وعلم النفس.

واليوم، تظهر المحليّة أو المحلّانية (Vernacularism) بوصفها المنهج المقترح ذي يُحقّق تلك الطموحات، إذ تجمع بين النظريّة الأدبيّة وتحليل الخطاب والأنثروبولوجيا اللغويّة، مؤسِّسةً دراستها على اللسان الحيّ، لا على اللغة المعيارية المفروضة. ومن خلال هذا المنهج، أصبح بإمكان الباحث العربي إجراء بحوثٍ ميدانية في اللهجات وأساليب التعبير المحليّة، دون أن يُحاكم أو يُتّهم بشق العصا أو بمناهضة الفصحى، إذ تعيد المحلّانية تعريف "اللسان العربي" بوصفه بيئةً لسانيةً متعدّدةً اللغات نابضةً بالحياة، لا نظاماً واحداً مغلقاً صنعه النحويون التوجيهيون. وبهذا، تستعيد المحلّانية حرّية البحث العلميّ، وتمنح اللغة كينونتها الإنسانية والاجتماعية من جديد.

إنّ ربط دراسة اللغة بالخبرة الإنسانية المعيشة، يُعيد إحياء ما بدأت به حلقة براغ قبل قرن: أي النظر إلى اللغة بوصفها كياناً حيّاً يجمع بين البنية والحياة. وتقدّم المحلّانية للعالم العربي إطاراً إبستمولوجيّاً تحرّريّاً يواجه العنف الرمزي ويفكّك الهرميات اللغوية بين "الفصحى" و"العامية"، ويُمكّن كلا من الناقد الأدبي والثقافي والباحث اللغوي من مقاربة الواقع اللغويّ والثقافيّ بمنهجيةٍ علميةٍ رصينة. وبذلك، تدعو المحلّانية جيلاً جديداً من الباحثين إلى دراسة اللغة بالمنهج العلمي لا بعاطفة، وبالثقافة لا بالأيديولوجيا، لاستعادة جوهر الإنسان المبدع والمتكلّم والمفكّر من خلال لسانه الحيّ.